أخبار وتقارير

عدن.. فردوس المنى المفقود وثلاثية البحر والرمل والجبل

المستقلة خاض ليمنات
في البدء كانت عدن.. وحي بسملة، من رحم الغيب ألقت بها حمم بركانها الأزلي مهجة عشق ملتهبة على ساحل الزمن الغابر لتبرد بمياه البحر وتستريح على أطراف المدى البعيد.. مثل فاتحة خلّق جاءت خارطتنا الوجودية بعد أن دفنت سر تشكلها الغامض خلف ركام عاصفة العصور وأنسنت جيولوجية الميلاد قبل أن تستفيق دوافع فضولنا ويعيدنا شجن البحث عبر أغابير الدهر إلى حقبة عوالم النار والجليد.. هي جنة الخلد (عدن) وقبلة العشق وقدس أقداس البهاء.. مرآة الحسن وبوتقة انصهار الصفو والنقاء وقاموس الوصف البديع عبر العصور وستبقى كذلك رغم عنت الطبيعة وعبث البشر.. ترمم صورتها العتيقة في مرسم الألق الكوني الأسنى وتعيد تشكيل وجه حاضرها من شظايا حطام السنين..
من يعرف عدن يتعلق بها ويمتزج بعبقها.. ومن يعشقها يختلط برمل سواحلها ويتنسم أنفاس ثغرها العاطر.. تسكنه نكهة أسواقها القديمة برائحة بخورها الساحر وطيبة أهلها ويتيه كلما داعب الصبا برود حريرها الفواح بطيب الزمان والمكان.. ومن يألفها ويفارقها تزهر حدائق الذكرى في أعماقه وتترنم أوتار حلم العودة ملء وجدانه على إيقاع لحن الروح الهائم في سماء الحنين.. يتشجن وتناديه تمتمات الشوق كلما فرشت له طيوف الأمسيات الحالمة بساط رمل ساحلها الحافظ لعهود المحبة
وأسرار القلوب.
وفي سفر الأيام، ما أجمل أن تعود عدن إلى نشوة فرحها الزاهي لتلبس مخملها المزركش بالنجوم مرة أخرى وتعود مهج أرواحنا المسافرة إلى حضن سكونها العاشق بعيداً عن مجال النفوس الملوثة بالحقد وطقوس الأيادي الملطخة بالدماء.. تعود عدن الحبيبة التي عرفناها وعرفتنا..
لقد وحشتنا ابتسامة الثغر الباسم.. وحشتنا نوارس شواطئها.. نفحات بخورها وأغاني زمنها الجميل.. نصمت ونبضات قلوبنا
وهمسات المشاعر تخفق: (مشتاقون يا عدن).. يسألنا الطهر والصفاء عدن أما عدت تبادلينا ذلك الشوق والحنين؟.
صفوان القباطي – [email protected]
كثيرة هي الشجون التي تجمعنا بعدن الحب والعشق والفن ولكن حسبنا في هذا المقام أن نحلق بأجنحة النغم في أثير خيال الرجوع للارتماء في حضن ليل عدن البحر والرمل والجبل.. فلكم يحلو السمر ويطيب جو الأنس للسهارى وعشاق السكون حين تأوي بهم مواعيد الوصال إلى صدر ليل عدن الحنون، هنالك حيث الجو الساحر ونسيم البحر العليل ينعش الأرواح.. أضواء النجوم.. شعشعات البدر المتكسرة على صفحة الأمواج مثل الماس منثور وانعكاسات زهوها المتماوج في ضياء وجه الحبيب.
إنه واحد من المشاهد المألوفة التي تعيد تكرار نفسها في مسرح ليل العشق الهادئ.. مسرح التلاقي الذي يصغي بنا لطفي جعفر أمان إلى تنهدات أمواجه المتكسرة على صدر ساحل أبين وتبوح بأسراره أنغام الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم.. وأجمل لقاء ما جاء على طريق الصدفة..
صدفة التقينا على الساحل ولا في حد
صدفة بلا ميعاد.. جمع الهوى قلبين
سمعت أبين على الأمواج تتنهَّد
لمَّا حواك الفؤاد.. والعين تناجي العين
والبحر والرمل والبدر الحبيب يشهد
على الهوى والوداد.. ما بيننا الاثنين
يا ساحل ابين بنى العشاق فيك معبد
كم من فتى يعشق.. ويحن للرملة
اللي يصيد الهوى فيك ما يخاف المد
حتى ولو يغرق.. تكفيه فيك ليلة
لك يد تمتد من فوق «المطلّع» ويد
في صيرة تترقرق.. تسكب هواك كله
وعلى غير ميعاد هانحن نعود لنتذكر عدن، ومتى كنا نسينا رائحة ذكرياتها المعطرة بالسحر.. نتذكرها فنحن لدفء التلاقي ونتشوق لأحضان اللقاء وأسمار لييلات الوصال وتخط الدموع على مآقينا أشواق الماضي وأحلامه.. لياليه وأيامه، وفردوس العواطف المفقود كما قال الراحل محمد سعد عبدالله خوف النسيان، ربما نحتاج اليوم لمن يذكرنا به وبآخر لقاء لنتحسر ونذرف الدموع..
فين التقينا وشفتك فين.. وفين جلسنا سوى يا زين
ذكِّرني فين شفتك.. يا زين وقابلتك
بالله تقلِّي التقينا فين
ذكرت لقيانا ياللي غرامك زاد.. لمَّا تلاقينا صدفة بلا ميعاد
وقلت لي كلمة.. مصحوبة بالبسمة
والجو خالي من الحُسَّاد
من كان معانا.. غير النجوم تشهد
ومن كمانا.. والخد فوق الخد
كم غارت الرملة.. من رنَّة القُبْلَة
قبلة جميلة بكف اليد
وفي مهجة الوجود يسري لحن الشوق الخالد.. شوق محب جعل قبلة القلب عدن ووجه تسبيحات شجونه شطرها.. ومن مثل العملاق (بن سعد) إذا تشوق وطارت به اللوعة صوب عدن.. إنه يود قطع المسافات الشاسعة سيراً على الأقدام من فرط شوقه واستعجاله:
إلى بندر عدن باسير سيره.. ولا بارد نسم إلا بصيره
متى باطوف في لحج الخضيرة.. وأشوف أهلي وأحبابي والإخوان
وانا بارتاح لا قد شفت شمسان
متى يا رب في حُقَّات بامتد.. وبا تعانق أنا والبحر والمد
وبا ودِّع زمان البعد والصَّد.. وأيام الضنا واعيش فرحان
متى باصحى غبش من صبح بدري.. وبا توّجه لبستان الكمسري
دقائق فيه تسوى كل عمري.. متى باندخلك يا خير بستان
الكثيرون يجدون أنفسهم في نداء اللهفة هذا الذي صاغه محمد سعد عبدالله بدم القلب ودمع العيون والكثيرون أيضاً يعودون لذرف الدموع على أطلال ماضي عدن الجميل وربما ود البعض العودة إلى كنف عشقهم القديم فيها وصدهم عن بلوغ المأمول وجع المقارنة بين عدن الأمس وعدن اليوم إنما وبدون شك (بن سعد) يكشف السر ويتحدث بلسان حال الجميع ويعيد طرح ذات السؤال:
متى باقضي مع الأحباب ليلة.. جميلة في صهاريج الطويلة
وبا تمتع بأزهار الخميلة.. بعادي طال ريت البعد لا كان
عدن يا ريتنا في الشهر مرة.. أمتِّع ناظري منك بنظرة
أحس من فرقتك بالقلب جمرة.. ودمع العين فوق الخد قد بان
بلادي قد حكم دهري ببعدك.. أنا عايش بعيد والقلب عندك
أنا لك يا عدن ملكك لوحدك.. بفضلك يا عدن أصبحت إنسان
متى باشوف أشجار الحسيني.. وباسقيها أنا من دمع عيني
متى يا رب با وَفِّّي يميني.. وباقبِّل تراب الشيخ عثمان
عليَّا نذر والرحمن يشهد.. إذا شفت الغدير أو بير أحمد
على رمل البريقة بافرش الخد.. وبابدأ بالصيام من شهر شعبان
ومثلما مثلت عدن حضن الاحتواء الحاني للقادمين إليها كذلك ظلت طيلة عقود قرن الألفية المنصرم قبلة لأشواق نساء الريف التواقات لعودة أحبتهن منها.. يترجم الأستاذ أحمد الجابري خطاب إحداهن في أغنيته الشهيرة للمرشدي:
عدن عدن يا ريت عدن مسير يوم.. شاسير به ليلة ما شرقد النوم
شوقت له كم لي سنين وشصبر.. من يوم سرح قلبي قلت ما شقدر
وتوثق سجلات الأغاني ذات الطابع العدني تفاصيل الآلاف من قصص الحب الجميلة.. يتجلى لنا في واحدة منها شاعرنا الجابري عاشق يشهد رمال ساحل صيرة على حبه في غمرة مشاهد كثيرة الليل /البحر/ الجسر الذي خشي أن يسقط بفعل الغيرة..
الميَّة والرملة.. تشهد على حبي
نبلة على نبلة.. مغروزة في جنبي
با ذكرك بالبحر.. والليل في صيرة
واخاف عليك الجسر.. يفلت من الغيرة
وكما كانت عدن فاتنة تأسر قلوب من سكنتهم قبل أن يسكنوها بنفس القدر كانت ملهمة لقرائحهم ومفجرة لطاقاتهم الخلاقة.. هذا ما يصارحنا به عملاق الطرب الكبير أبو بكر سالم بالفقيه الذي بدأ مشواره الفني فيها في الخمسينيات حيث يقول لولا عدن لما كان هذا السفر الطويل في عالم الفنولهذا نجده كثير التشوق ودائم الحنين لسفوح شمسان ومن حل في تلك النواحي والربوع:
لو يمر العمر كله في شجن.. لو أبات الليل ما اذوق الوسن
كل شي مقبول.. كل شي معقول
كل شي إلا فراقك يا عدن
يا رسولي خذ معك وجدي وأشواقي وطير
طُف على شمسان واجزع ساحل ابين والغدير
قل لهم قلبي على الهجران ما يحمل كثير
شمسان يا عز راسي يا أُحيلي مكن.. أفديك وافدي الذي هو في سفوحك سكن
مشتاق مشتاق لك مشتاق طول الزمن.. الله الله يجمع شملنا يا عدن
وها هو (أبو أصيل) بعد أن طاف العالم من أقصاه إلى أدناه وتعبت منه الموانئ والمطارات.. يعود ليتذكر (أول منزل) ويكتب بدموعه آحات الوجد والالتياع على نسق جادك الغيث يا زمان الوصل في عدن..
يا صاحبي حَيَّا زمان اوَّل.. لي فيه كل الناس تتواصل بحبيَّه
بندر عدن نضويه نتجوَّل.. حيث الجبل والحور ترتع حول سفحه والبساتين
يكفي من الترحال زل الزَّل.. يا صاحبي هل عاد شي في الناس حنيَّة
وكل شي مقبول متقبَّل.. مهما حصل إلا فراقك يا عدن من حين لاحين
وليست وحدها (في شواطي عدن حامت بقربي حمامة.. ذوَّبتني وخلتني أسير ابتسامة) ما تسرب من أسرار مغامرات أبو أصيلالعاطفية في عدن فقد سبقتها (إنتي يا حلوة) يوم أوقعته الصدفة في شباك المها العدنية الشاردة على طريق البريقة فلم يتردد عن الاعتراف بالحكاية..
صدفة ويا ما احلى الصدف.. لمَّا لمحتك من قريب
على طريق البريقة
نظرة ومن نظرة عيونك.. كلمة قالت لي حبيب
شبَّت بقلبي حريقة
من يومها حسَّيت.. بحبي لك بشوقي والحنين
وبالأمل والرجا
بعدك أنا بعدك.. ولو طالت بأشواقي السنين
حتى يتم اللقا
وينضم إلى قائمة المولعين بعشق الثغر الباسم الأسطورة (بو محضار) الذي حملته صباباته إليها ليلاقي في نواحيها متعة العين والخاطر.. ومن زار عدن مرة ضمن العودة مرات ومرات والشاهد عبق الزعفران والسوق الطويل..
كلَّما جيت ساحلها يزيد ارتياحي.. كم تنزَّهت في أحيائها والضواحي
من كريتر إلى صيرة إلى خور مكسر.. يا عدن يا بلاد الخير يا خير بندر
تاه قلبي بتواهي عدن والمعلا.. وان أتى جولدمور القلب يا ما تسلى
والبريقة ذهب فيها وفي الشيخ عنبر
يا أثر زين يملا العين وسط الطويلة.. يا صهاريج تبهر يا مناظرجميلة
كل شي في عدن عندي له القلب يستر
ويخاطب حسن الشرفي نوارس شواطئها في ليل الشجن حيث يحلو السمر ويعذب التناجي بين الأحبة والخلان:
يا نوارس عدن.. بين البريقة وصيرة
طال ليل الشجن.. وانا قليل البصيرة
ويعود بالدكتور المقالح حنينه إلى حضن الأمنيات وجنة أحلام الصبا والشباب.. يتنهد ويخط بأنامل الحسرة على رمل الساحل الذهبي هواجس الذكرى وأطياف مرافئ الأمس البعيد..
مشغول بك يا عدن.. يا زينة أرض اليمن
مشغول ضناني الشجن.. وفي فؤادي سكن
في شاطئ الأمنيات.. مع المها السارحات
كانت لنا ذكريات.. ودندنة أغنيات
في كل معنى وفن
ما أجمل الجولدمور.. حيث المرايا البدور
وامواج نشوى تدور.. سكرى بعطر الزهور
فهل يعود الزمن
يا ليت من هو يعود.. يعيش تلك العهود
وفي البريقة الشرود.. أو في المعلا الودود
يطفي لهيب الشجن
بطاقات شوق والتياع
عدن عدن فيها الهوى ملوَّن.. لكن لمن
أسلى بها أو أشتكي وأحزن
لا اشتد لي فيها وتر ولا رن
الفضول
إذا سرى من هوى حُقَّات في عدن.. أحيا عليل الهوى شجوي وذكَّرني
أهل القطيع وأهل الزعفران وفي.. حافة حسين من اهل الفضل والفطن
أحبَّتي وأُصَيْحَابي فذكرهمُ.. في يقظتي لا يفارقني ولا وسني
أبعث مزاحم حي العيدروس.. وصافح في الخساف وعانق ثم واحتضنِ
بيضاً غطارفة سمراً جحاجحة.. شَنِّف بذكرهمُ أذني وحدثني
وغن لي (مرحباً بالهاشمي) فما.. (يا ساري البرق) إن غنَّيت يطربني
القمندان
يا دار سعد ونعم الدار من سكن.. كوني دواماً كما أحببت أن تكنِ
يا دار يا خيرة الأوطان أجمعها.. متى متى بالذي أهواه تجمعني
سالم حجيري
مشتاق لك يا نجم فوق شمسان.. شوق المحب الوفي
واردد اسمك في الليالي الحان.. والشمع لا ينطفي
واحلم بوصلك في سفوح عيبان.. ودمعتي هاتفي
محمود الحاج
أيا طيَّار سالك بالنبي بادر.. دعس عجِّل لحتى تسبق الطائر
أنا مشتاق ولا اقدر عافراق البين..عدن ريت المسافة بيننا ميلين
محمد سالم بن بريك

زر الذهاب إلى الأعلى